خدماتناالوظائف الشاغرةالعطاءاتارشيف الاخبار والبياناتأتصل بنا
  E | ع    
كلمة سماحة قاضي القضاة

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله  وعلى آله وأصحابه ، أما بعد :

 فإن من نعم الله على العباد أن أرشدهم إلى شريعة صالحة لكل زمان ومكان ، قاعدتها جلب الإصلاح بشتى أنواعه ومختلف صوره ، ودرء الفساد بجميع أنواعه وكافة أشكاله ، وإن من جوانب هذه الشريعة المباركة الجانب القضائي في الإسلام الذي تعتبر أحكام القرآن الكريم والسنة المطهرة مورداً معيناً ومصدراً غنياً لمقومات بنائه وركائز أسسه تمدُّ البشرية بكل الحلول الناجعة والطرق الحكيمة لمواجهة كل مستحكم واجتياز كل عقبة لعلاج المشاكل مهما كانت وحل الصعاب مهما عظمت وفق قواعد ثابتة وكليات متينة تواكب كل عصر وتسع كل جديد ، ولهذا فالقضاء في الشريعة الإسلامية يرتكز على أصول جامعة وقواعد كلية ذات عمق في تحصيل مصالح العباد ودرء الشرور والفساد لتحفظ لهم الحقوق وتجلب لهم الأمن وتنشر العدل في شتى صور حياتهم ومناشطها المختلفة، سبق هذا النظام كل الأنظمة القضائية تأصيلاً وتقعيداً على أمتن الأسس التي تحقق مقاصد القضاء بأتم الأوجه وأحسن الطرق.

لكل هذا جاءت الشريعة الإسلامية ، فأقرت الحقوق بجميع أنواعها ، وأعطت كلّ ذي حق حقه ، ورسمت الطريق في كيفية استعمال هذه الحقوق وأساليب ممارستها بما يحقق التكافل الاجتماعي والتضامن بين الأفراد وبما يؤمن الاستقرار في المعاملات بشتى صورها وبما يوازن بين الملكية الخاصة والمصالح العامة وفق النظرية المعروفة في الفقه الإسلامي المسماة ( نظرية منع التعسف في استعمال الحق ) ولكن لما كانت النفس البشرية قد جبلت على حب الذات والأنانية ، والطمع بما في أيدي الناس ، والاعتداء على حقوق الآخرين ، ومحاولة سلبها أو الاستئثار بها أو الاستيلاء عليها إما بالقوة وإما بالحيل ، لذا أقامت الشريعة الإسلامية نظام القضاء لحفظ الحقوق ، وإقامة العدل ، وتطبيق الأحكام ، وصيانة الأنفس ، والأعراض ، والأموال ، ومنع الظلم والاعتداء ، وليستتب الأمن في المجتمع وتسود الطمأنينة ويعم الخير ، ولما كان نظام القضاء في الإسلام من أروع الأنظمة ، وأدقها في تحقيق مقاصد الشريعة  والوصول لغاياتها وأهدافها.

فهناك مبادئ كلية وثوابت أساسية وخصائص عامة في نظام القضاء الشرعي وهي :

المبدأ الأول : مبدأ النظر إلى الجانب التعبدي .

مما يمتاز به القضاء في الإسلام مراعاة الجانب التعبدي وذلك بارتباطه بقاعدة الحلال والحرام ، والثواب والعقاب ، وهذا المعنى كفيل بتربية الوازع الديني عند المسلم مما يجعل من ذلك مراقباً له في حياته عامة من تصرفات قولية وفعلية لذا حرص الإسلام على غرس العقيدة في وجدان المسلم قبل تكليفه بالأحكام ، وأحاطه بسياج من الأخلاق بجانب التكاليف ، ليكون ذلك هو الضامن لتنفيذ تلك الأحكام الشرعية ، وهو الحامي لصحة التنفيذ وحسن السلوك والبعد عن الانحراف ، وهو الرقيب في الطاعة الحقيقية في التطبيق ، لذلك فإن العقيدة وتعاليم الأخلاق لها أثر عظيم في سلامة ونزاهة النظام القضائي في الإسلام، ومن صور ذلك ما يلي :

 أن من الشروط الأساسية في ولاية القاضي شرط العدالة التي رأسها تنفيذ الأوامر الربانية واجتناب النواهي الإلهية ، إذ العدالة : تعني الالتزام للأحكام الشرعية مع اجتناب الكبائر وعدم الإصرار على الصغائر، وحينئذ فالعدالة هي وازع عن الجور في الحكم والتقصير في تقصي النظر في حجج الخصوم

ورود الأوامر الجازمة بالقيام بالعدل والتحذيرات القاطعة من الجور والظلم في نصوص كثيرة منها قـوله تعالى " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى " .

ظهور الوازع الديني في الإثبات بشكل ظاهر وجلي .

فالشهادة التي هي أهم وسائل الإثبات يشترط فيها العدالة التي تجعل صاحبها قائماً بشهادته حق قيام قال الله تعالى " وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ " وقال سبحانه وتعالى " مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ " .

حث الشريعة على أداء الشهادة واعتبار ذلك واجباً تمليه نصوص الشرع قال تعالى :  وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّه. وقال تعالى " كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ " . وقال عز وجل " وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا " وقال سبحانه " وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ " . بل ورهب الشارع الكريم من شهادة الزور وجعلها في مرتبة الإشراك بالله واعتبرها من أكبر الكبائر ، وهدد مرتكبها بالويل والثبور، فقال رسول الله ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله ، قال: الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين وكان متكئاً فجلس ، وقال ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت ) . 

ظهور الوازع الديني في اليمين كوسيلة من وسائل القضاء لذا فإن الأساس في مشروعية اليمين اللجوء إلى العقيدة الدينية بإشهاد الله تعالى على صدقه، وتحمل الحنث والكفارة والهلاك عند الكذب ، قال: من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان.

 يبرز الوازع الديني أيضاً في الإقرار والنكول والصدق في الدعاوى حيث تحث العقيدة على مبدأ الصدق في كل شيء وتنهى عن الكذب بشتى صوره ومختلف أشكاله ، وهذا يقود إلى صدور الإقرار الصحيح ، والاعتراف بالحقوق لأصحابها، والبعد عن الاعتراف الكاذب الذي يقربه لدوافع خاصة يريد المقر إخفاءها ، فعن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقول :( ليس من رجل ادعي لغير أبيه وهو يعلم إلا كفر ، ومن ادعى ما ليس له فليس منا ، وليتبوأ مقعده من النار، ومن دعا رجلاً بالكفر أو قال : هو عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه  أي : رجع عليه ) ، فقوله :من ادعى ما ليس له ، يدخل فيه الدعاوى الباطلة كلها .

أن الشريعة ركزت على الوازع الديني كوسيلة لصيانة الحقوق وعدم الظلم والاعتداء ، ولهذا إذا تعسرت وسائل الإثبات أو تمكن أحد الخصوم من قلب الحق إلى باطل بإثبات ما ادعاه زوراً وبهتاناً ، لم يبق إلا الوازع الديني الذي أشار إليه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم عند ما قال :( إنما أنا بشر ، وإنكم تختصمون إلي ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو ما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخـيه شيئاً فلا يأخـذه فإنما أقطع له قطعـة مـن النار فليأخـذها أو ليتركها ) ، ومن ذلك نرى أن القيم الخلقية ومبادئ العقيدة تسهم بنصيب وافر في سلامة ونزاهة القضاء ووسائل الإثبات المستعملة فيه وتوفر له الحيطة والاطمئنان في الأداء والفصل في النزاع.

المبدأ الثاني : مبدأ النظر إلى الظواهر دون البواطن .

إن القضاء في الإسلام يقع وفق الإثبات المظهر للواقعة والحق أمام القاضي فإذا كان الإثبات صحيحاً في الظاهر والباطن ومطابقاً للواقع وصادقاً في نفس الأمر فإنه يؤثر في المدعى به ظاهراً وباطناً فيحكم للمدعى بالشيء ظاهراً ويحل له أخذه واستعماله واستغلاله وتملكه والاستفادة منه باطناً فيما بينه وبين الله أي ينفذ الحكم في الدنيا والآخرة . أما إذا كان الإثبات غير مطابق للواقع وكان ظاهره يخالف باطنه فإن حكم الحاكم المبني على الإثبات لا يحل حلالاً ولا يحرم حراماً ولا يغير الشيء عما هو عليه في الواقع ونفس الأمر وإنما ينفذ في الظاهر فقط عند من لا يعلم الحقيقة والباطن وتترك البواطن لله وترتبط بالحساب والعقاب الأخروي لعموم حديث أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله  عليه الصلاة والسلام قال : إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأقضي له بذلك فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو فليتركها ، وفي لفظ  إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي نحو ما أسمع فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار.

المبدأ الثالث : مبدأ قيام القضاء على الحجة والبرهان .

 الإثبات في القضاء الشرعي هو المعيار في تمييز الحق من الباطل ، والغث من السمين والحاجز أمام الأقوال الكاذبة والدعوى الباطلة وعلى هذا : فكل ادعاء يبقى في نظر القضاء الشرعي محتاجاً إلى دليل ولا يؤخذ به إلا بالحجة والبرهان ، يقول جل وعلا " قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " .

ويقول سبحانه " فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ " وقد روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال :( لو يعطي الناس بدعواهم لادعى رجال دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه.

المبدأ الرابع : مبدأ المساواة والعدالة في القضاء الشرعي .

 من الأصول المقررة في الشريعة الإسلامية أن التشريع  لله سبحانه وتعالى بما ورد في كتابه الكريم ، وبما ورد عن رسوله عليه الصلاة والسلام ، وحينئذ فالإسلام بنـزعه السيادة التشريعية من يد البشر قد وضع أرسخ قاعدة لكفالة حق البشر في المساواة أمام أحكامه وتشريعه ، إذ بذلك يقطع السبيل أمام أية فئة قد تدعي لنفسها الفضل أو التميز على غيرها من الفئات . فالقاعدة القضائية في الشريعة الإسلامية هي من عند الله ، والناس مهما علت مقاماتهم أو سمت منازلهم فهم أمام شرع الله متساوون لا امتياز لأحد على أحد. ولهذا فالقاضي في الإسلام يعتمد في قضائه على التشريع الإلهي ، فإذا كان الناس أمام التشريع الإلهي سواء على ما أسلفنا ، فهم أمام تنفيذ ما يختص منه بالقضاء سواء كذلك ، لا تفريق بينهم بسبب الأصل أو الجنس أو اللون أو الدين وليس في دار الإسلام من فرد لا تطوله يد القضاء ، ولعل ذلك من أبرز صفات القضاء في الإسلام ، ومما تميز به على النظم الأخرى فالمساواة في القضاء الإسلامي غاية تسعى العدالة إلى تحقيقها وهي قيمة وهدف ليتحقق بذلك العدل الشامل .

المبدأ الخامس : وحدة المصدر في القضاء الإسلامي .

المرجع في نظر جميع القضايا والمخاصمات إلى أحكام الشريعة الإسلامية فهي الأصل والأساس المعتمد في جميع أحكام القضاء، وليس ثمة سلطان ذو هيمنة على القضاء والقضاة إلا لحكم الشرع المطهر قال تعالى " وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ " وقال جل شأنه " فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً " .

 المبدأ السادس والاخير : مبدأ استقلال القضاء في الإسلام .

يُعد استقلال القضاء ركيزة أساسية لحياده وبُعده عن المؤثرات المخلة بمسيرته وبقدر ما تكون العناية بترسيخ هذا المبدأ وتطبيقه تتحقق بشكل أدق وأكمل غايته المقصودة منه وهي إقامة العدل والقسط بين الناس في سائر الحكومات والخصومات قال تعالى " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ " .

وفي الختام نذكر الجميع بوصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث يقول : ( فأن القضاء في مواطن الحق مما يوجب به الله الاجر ويحسن به الذخر فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس ومن تزين بما ليس فيه شانه الله فان الله تعالى لا يقبل من العباد الا ما كان خالصا فما ضنك بثواب عند الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته ).

ونسأل الله عز وجل أن يكرمنا بالعدل وفصل الخطاب ، وأن يجعلنا من أولي النُّهَىْ والألباب، وأن يُجيرنا من أهوال يوم الحساب  وأن يَمُن علينا بحسن المتاب، ويضاعفَ لنا الأجر والثواب، إنه خيرُ مسؤول وأكرمُ من أجاب .

                                                                       د. محمـود صـدقي الهبـاش

                                                                           قاضي قضاة فلسطين / مستشار الرئيس للشئون الدينية والعلاقات الاسلامية